فصل: (سورة يوسف: آية 85)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَجَاءَ بِكُمْ مِّنَ البدو} وذلك أنّ يعقوب وبنوه كانوا أهل بادية ومواشي، والبدو مصدر قولك: بدا، يبدو، بدوًّا، إذا صار بالبادية،: {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ} أفسد: {الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ} ذو لُطف وصنع: {لِّمَا يَشَاءُ} عالم بدقائق الأمور وحقائقها،: {إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم}.
روى عبدالصمد عن أبيه عن وهب: قال: دخلوا يعني يعقوب وولده مصر وهم اثنان وسبعون إنسانًا ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاطنهم ستّمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا سوى الذرّية والهرمى والزمنى، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتا ألف سوى المقاتلة.
قال أهل التاريخ: أقام يعقوب بمصر بعد موافاته بأهله أربعًا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش، ثمّ مات بمصر، ولمّا حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك ومضى به حتى دفنه بالشام، ثمّ انصرف إلى مصر.
قال سعيد بن جبير: نُقل في تابوت من ساج إلى بيت المقدس ووافق ذلك يوم مات عيصوا فدفنا في قبر واحد، فمن ثَمّ تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس من فعل ذلك منهم، وولد يعقوب وعُيص في بطن واحد، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعًا مائة وسبعة وأربعين سنة.
قالوا: فلمّا جمع الله ليوسف شمله وأقرّ له عينه وأتمّ له رؤياه، وكان موسّعًا له في ملك الدنيا ونعيمها علم أنّ ذلك لا يدوم له وأن لابدّ له من فراقه فأراد نعيمًا هو (أدوم) منه، فاشتاقت نفسه إلى الجنّة فتمنى الموت ودعا ربّه، ولم يتمنَّ نبي قبله ولا بعده الموت فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك} يعني ملك مصر: {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} يعني تعبير الرؤيا: {فَاطِرَ السماوات والأرض} أي خالقها وبارئها.
{أَنتَ وَلِيِّي} مُعيني: {فِي الدنيا والآخرة} تتولّى أمري: {تَوَفَّنِي} اقبضني إليك: {مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} بآبائي النبيين.
قيل: فتوفّاه الله طيّبًا طاهرًا بمصر، ودفن في النيل في صندوق رُخام، وذلك أنّه لما مات تشاحّ الناس عليه كلٌّ يُحب أن يُدفن في محلّتهم لما يرجون من بركته، فاجتمعوا على ذلك حتى همّوا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث مفرق الماء بمصر فيمرّ الماء عليه ثمّ يصل الماء إلى جميع مصر، فيكونوا كلّهم فيه شرعًا واحدًا ففعلوا.
وروى صالح المرّي، عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك، قال: إنّ الله عزّ وجل لمّا جمع ليعقوب شمله خلا ولده نجيًّا، فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف؟ قالوا: بلى، قال: فإنْ أعَفَوا عنكم ولكن كيف لكم بربّكم؟، فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنب أبيه قاعد.
قالوا: يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله، حتى حرّكوه، والأنبياء (عليهم السلام) أرحم البريّة، فقال: ما لكم يا بَنيَّ؟ قالوا: ألست قد علمت ما كان منّا إليك، وما كان منّا إلى أخينا يوسف؟ قالا: بلى، وقالوا: أفلستما قد عفوتما، قالا: بلى، قالوا: فإنّ عفوكما لا يغني عنّا إنْ كان الله لم يعفُ عنّا، قال: فما تُريدون يا بَني؟ قالوا: نُريد أن تدعو الله فإذا جاء الوحي من عند الله بأنّه قد عفا عنا صُنْعَنا قرّت أعيُننا واطمأنّت قلوبنا، وإلاّ فلا قرّة عين لنا في الدنيا أبدًا، فقام الشيخ واستقبل القبلة وقام يوسف خلف أبيه، وقاموا خلفهما أذلّة خاشعين، فدعا يعقوب وأمّن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة.
قال صالح المرّي: يخيفهم، حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبرئيل على يعقوب فقال: إنّ الله تبارك وتعالى بعثني إليك أُبشّرك، فإنّه قد أجاب دعوتك في وِلدك، وإنّه قد عفا عمّا صنعوا، فإنّه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوّة، وذلك الذي ذكرت وقصصتُ عليك. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة يوسف: آية 77]

{قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}
{أَخٌ لَهُ} أرادوا يوسف. روى أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء، وأقبلوا عليه وقالوا له: ما الذي صنعت؟ فضحتنا وسوّدت وجوهنا، يا بنى راحيل ما يزال لنا منكم بلاء، متى أخذت هذا الصاع؟ فقال: بنو راحيل الذين لا يزال منكم عليهم البلاء، ذهبتم بأخى فأهلكتموه، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم.
واختلف فيما أضافوا إلى يوسف من السرقة، فقيل: كان أخذ في صباه صنما لجدّه أبى أمّه فكسره وألقاه بين الجيف في الطريق. وقيل: دخل كنيسة فأخذ تمثالا صغيرًا من ذهب كانوا يعبدونه فدفنه. وقيل: كانت في المنزل عناق أو دجاجة فأعطاها السائل. وقيل كانت لإبراهيم عليه السلام منطقة يتوارثها أكابر ولده، فورثها إسحاق ثم وقعت إلى ابنته وكانت أكبر أولاده، فحضنت يوسف- وهي عمته- بعد وفاة أمّه وكانت لا تصبر عنه، فلما شبّ أراد يعقوب أن ينتزعه منها، فعمدت إلى المنطقة فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وقالت: فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها، فوجدوها محزومة على يوسف، فقالت: إنه لي سلم أفعل به ما شئت، فخلاه يعقوب عندها حتى ماتت فَأَسَرَّها إضمار على شريطة التفسير، تفسيره {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكانًا} وإنما أنث لأنّ قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكانًا} جملة أو كلمة، على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة، كأنه قيل: فأسرّ الجملة أو الكلمة التي هي قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكانًا} والمعنى: قال في نفسه: أنتم شر مكانًا، لأنّ قوله قال: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكانًا} بدل من أسرَّها. وفي قراءة ابن مسعود: {فأسرَّه} على التذكير، يريد القول أو الكلام. ومعنى: {شَرٌّ مَكانًا} أنتم شر منزلة في السرق، لأنكم سارقون بالصحة، لسرقتكم أحاكم من أبيكم {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ} يعلم أنه لم يصح لي ولا لأخى سرقة، وليس الأمر كما تصفون.

.[سورة يوسف: آية 78]

{قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)}
استعطفوه بإذكارهم إياه حق أبيهم يعقوب، وأنه شيخ كبير السنّ أو كبير القدر، وأنّ بنيامين أحب إليه منهم، وكانوا قد أخبروه بأن ولدًا له قد هلك وهو عليه ثكلان، وأنه مستأنس بأخيه {فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ} فخذه بدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد {إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} إلينا فأتمم إحسانك. أو من عادتك الإحسان فاجْرِ على عادتك ولا تغيرها.

.[سورة يوسف: آية 79]

{قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظالِمُونَ (79)}
{مَعاذَ اللَّهِ} هو كلام موجه، ظاهره: أنه وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده، فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلمًا في مذهبكم، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم، وباطنه: إنّ اللّه أمرنى وأوحى إلىّ بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة أو لمصالح جمة علمها في ذلك، فلو أخذت غير من أمرنى بأخذه كنت ظالمًا وعاملا على خلاف الوحى. ومعنى: {مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ} نعوذ باللّه معاذًا من أن نأخذ، فأضيف المصدر إلى المفعول به وحذف من. و{إِذًا} جواب لهم وجزاء، لأن المعنى: إن أخذنا بدله ظلمنا.

.[سورة يوسف: آية 80]

{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80)}
{اسْتَيْأَسُوا} يئسوا. وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مرّ في استعصم. والنجي على معنيين: يكون بمعنى المناجى، كالعشير والسمير بمعنى: المعاشر والمسامر، ومنه قوله تعالى: {وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا}: وبمعنى المصدر الذي هو التناجي، كما قيل النجوى بمعناه. ومنه قيل: قوم نجى، كما قيل {وَإِذْ هُمْ نَجْوى} تنزيلا للمصدر منزلة الأوصاف. ويجوز أن يقال: هم نجى، كما قيل: هم صديق، لأنه بزنة المصادر وجمع أنجية. قال:
إنِّى إذَا مَا الْقَوْمُ كَانُوا أَنْجِيَهْ

ومعنى: {خَلَصُوا} اعتزلوا وانفردوا عن النسا خالصين لا يخالطهم سواهم {نَجِيًّا} ذوى نجوى، أو فوجا نجيًا، أي مناجيًا لمناجاة بعضهم بعضًا. وأحسن منه أنهم تمحضوا تناجيًا، لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه يجدّ واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم، على أي صفة يذهبون؟ وما ذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب، فاحتاجوا إلى التشاور {كَبِيرُهُمْ} في السنّ وهو روبيل. وقيل: رئيسهم وهو شمعون: وقيل: كبيرهم في العقل والرأى وهو يهوذا {ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} فيه وجوه: أن تكون {ما} صلة، أي: ومن قبل هذا قصرتم في شأن يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم. وأن تكون مصدرية، على أن محل المصدر الرفع على الابتداء وخبره الظرف، وهو {مِنْ قَبْلُ}.
ومعناه: ووقع من قبل تفريطكم في يوسف. أو النصب عطفًا على مفعول {أَلَمْ تَعْلَمُوا} وهو {أَنَّ أَباكُمْ} كأنه قيل: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقًا وتفريطكم من قبل في يوسف، وأن تكون موصولة بمعنى: ومن قبل هذا ما فرطتموه، أي قدّمتموه في حق يوسف من الجناية العظيمة، ومحله الرفع أو النصب على الوجهين {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} فلن أفارق أرض مصر {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} في الانصراف إليه {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} بالخروج منها، أو بالانتصاف ممن أخذ أخى، أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب {وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ} لأنه لا يحكم أبدًا إلا بالعدل والحق.

.[سورة يوسف: آية 81]

{ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81)}
وقرئ: {سَرَقَ} أي نسب إلى السرقة {وَما شَهِدْنا} عليه بالسرقة {إِلَّا بِما عَلِمْنا} من سرقته وتيقناه، لأنّ الصواع استخرج من وعائه ولا شيء أبين من هذا {وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق. أو ما علمنا أنك تصاب به كما أصبت بيوسف. ومن قرأ {سَرَقَ} فمعناه: وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق، وما كنا للغيب: للأمر الخفي حافظين، أسرق بالصحة أم دسّ الصاع في رحله ولم يشعر.

.[سورة يوسف: الآيات 82- 83]

{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)}
{الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها} هي مصر، أي أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها} وأصحاب العير، وكانوا قومًا من كنعان من جيران يعقوب. وقيل من أهل صنعاء، معناه: فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم ف {قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} أردتموه وإلا فما أدرى ذلك الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم بِهِمْ جَمِيعًا بيوسف وأخيه وروبيل أو غيره {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بحالي في الحزن والأسف {الْحَكِيمُ} الذي لم يبتلنى بذلك إلا لحكمة ومصلحة.

.[سورة يوسف: آية 84]

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)}
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} وأعرض عنهم كراهة لما جاءوا به {يا أَسَفى} أضاف الأسف وهو أشدّ الحزن والحسرة إلى نفسه، والألف بدل من ياء الإضافة، والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعًا غير متعمل فيملح ويبدع، ونحوه {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ}، {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}. {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ}، {مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ} وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «لم تعط أمة من الأمم- إنا للّه وإنا إليه راجعون- عند المصيبة إلا أمّة محمد صلى اللّه عليه وسلم. ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع. وإنما قال يا أسفى» فإن قلت: كيف تأسف على يوسف دون أخيه ودون الثالث، والرزء الأحدث أشدّ على النفس وأظهر أثرًا؟ قلت: هو دليل على تمادى أسفه على يوسف، وأنه لم يقع فائت عنده موقعه، وأنّ الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضًا عنده طريا.
وَلَمْ تُنْسِنِى أَوْفَى الْمُصِيبَاتِ بَعْدَهُ

ولأنّ الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده، فكان الأسف عليه أسفًا على من لحق به {وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ} إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين وقلبته إلى بياض كدر. قيل: قد عمى بصره. وقيل: كان يدرك إدراكا ضعيفًا. قرئ: {من الحزن}، و{من الحزن}، الحزن كان سبب البكاء الذي حدث منه البياض، فكأنه حدث من الحزن. قيل ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما، وما على وجه الأرض أكرم على اللّه من يعقوب. وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام: ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟ قال: وجد سبعين ثكلى. قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهيد، وما ساء ظنه باللّه ساعة قط. فإن قلت: كيف جاز لنبي اللّه أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟
قلت: الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حمد صبره وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن، ولقد بكى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال: «القلب يجزع، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون» وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة، ولطم الصدور والوجوه، وتمزيق الثياب. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه بكى على ولد بعض بناته وهو يجود بنفسه، فقيل: يا رسول اللّه، تبكى وقد نهيتنا عن البكاء؟ فقال: ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين: صوت عند الفرح، وصوت عند الترح: وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره، فقيل له في ذلك، فقال: ما رأيت اللّه جعل الحزن عارًا على يعقوب {فَهُوَ كَظِيمٌ} فهو مملوة من الغيظ على أولاده ولا يظهر ما يسوؤهم، فعيل بمعنى مفعول، بدليل قوله: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} من كظم السقاء إذا شدّه على ملئه، والكظم بفتح الظاء: مخرج النفس. يقال: أخذ بأكظامه.

.[سورة يوسف: آية 85]

{قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85)}
{تَفْتَؤُا} أراد: لا تفتؤ، فحذف حرف النفي لأنه لا يلتبس بالإثبات، لأنه لو كان إثباتا لم يكن بدّ من اللام والنون. ونحوه:
فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا

وحذف لا النافية للمضارع بعد القسم كثير لأمن اللبس، ولأنه لولا تقديرها لوجب اقتران الفعل بلام جواب القسم أو بنون التوكيد أو بهما. ويمين: نصب بمحذوف، أي أحلف يمين اللّه، فهو كالمصدر النائب عن فعله.
وبقية القصة تقدمت.
ومعنى: {تَفْتَؤُا} لا تزال. وعن مجاهد: لا تفتر من حبه، كأنه جعل الفتوء والفتور أخوين.
يقال: ما فتئ يفعل. قال أوس:
فَما فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وَتَدَّعِى ** وَيَلْحَقُ مِنهَا لَاحِقٌ وَتَقَطعُ

{حَرَضًا} مشفيًا على الهلاك مرضًا، وأحرضه المرض، ويستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه مصدر. والصفة: حَرِض، بكسر الراء. ونحوهما: دنف ودنف، وجاءت القراءة بهما جميعًا. وقرأ الحسن: {حرضًا} بضمتين، ونحوه في الصفات: رجل جنب وغرب.